لم أكن جاوزت الثلاثين من عمرى حين أنجبت زوجتي أوّل اطفالى
كانت زوجتي تهتم به كثيرًا.. وتحبّه كثيرًا.. أما أنا فلم أكن أكرهه.. لكني لم أستطع أن أحبّه ! كبر سالم.. بدأ يحبو.. كانت حبوته غريبة.. قارب عمره السنة فبدأ يحاول المشي..
فاكتشفنا أنّه أعرج.. أصبح ثقيلًا على نفسي أكثر.. أنجبت زوجتي بعده عمر وخالدًا.. مرّت السنوات.. وكبر سالم.. وكبر أخواه.. كنت لا أحب الجلوس في البيت.. دائمًا مع أصحابي.. في الحقيقة كنت كاللعبة في أيديهم.. لم تيأس زوجتي من إصلاحي..
كانت تدعو لي دائمًا بالهداية.. لم تغضب من تصرّفاتي الطائشة.. لكنها كانت تحزن كثيرًا إذا رأت إهمالي لسالم واهتمامي بباقي إخوته.. كبر سالم.. وكبُر معه همي.. لم أمانع حين طلبت زوجتي تسجيله في أحدى المدارس الخاصة بالمعاقين..
لم أكن أحس بمرور السنوات.. أيّامي سواء.. عمل ونوم وطعام وسهر.. في يوم جمعة.. استيقظت الساعة الحادية عشر ظهرًا..
ما يزال الوقت مبكرًا بالنسبة لي.. كنت مدعوًا إلى وليمة.. لبست وتعطّرت وهممت بالخروج.. مررت بصالة المنزل.. استوقفني منظر سالم.. كان يبكي بحرقة ! إنّها المرّة الأولى التي أنتبه فيها إلى سالم يبكي مذ كان طفلًا.. عشر سنوات مضت.. لم ألتفت إليه.. حاولت أن أتجاهله.. فلم أحتمل.. كنت أسمع صوته ينادي أمه وأنا في الغرفة.. التفت.. ثم اقتربت منه.. قلت: سالم ! لماذا تبكي ؟! حين سمع صوتي توقّف عن البكاء.. فلما شعر بقربي.. بدأ يتحسّس ما حوله بيديه الصغيرتين.. ما بِه يا ترى؟!
اكتشفت أنه يحاول الابتعاد عني !! وكأنه يقول: الآن أحسست بي.. أين أنت منذ عشر سنوات ؟! تبعته.. كان قد دخل غرفته.. رفض أن يخبرني في البداية سبب بكائه.. حاولت التلطف معه.. بدأ سالم يبين سبب بكائه.. وأنا أستمع إليه وأنتفض.. تدري ما السبب !! تأخّر عليه أخوه عمر.. الذي اعتاد أن يوصله إلى المسجد.. ولأنها صلاة جمعة.. خاف ألاّ يجد مكانًا في الصف الأوّل.. نادى عمر.. ونادى والدته.. ولكن لا مجيب.. فبكى..
أخذت أنظر إلى الدموع تتسرب من عينيه المكفوفتين.. لم أستطع أن أتحمل بقية كلامه.. وضعت يدي على فمه.. وقلت: لذلك بكيت يا سالم !!.. قال: نعم.. نسيت أصحابي.. ونسيت الوليمة.. وقلت: سالم لا تحزن.. هل تعلم من سيذهب بك اليوم إلى المسجد؟.. قال: أكيد عمر.. لكنه يتأخر دائمًا.. قلت: لا.. بل أنا سأذهب بك..
دهش سالم.. لم يصدّق.. ظنّ أنّي أسخر منه.. استعبر ثم بكى.. مسحت دموعه بيدي.. وأمسكت يده.. أردت أن أوصله بالسيّارة.. رفض قائلًا: المسجد قريب.. أريد أن أخطو إلى المسجد.. - إي والله قال لي ذلك -.. لا أذكر متى كانت آخر مرّة دخلت فيها المسجد.. لكنها المرّة الأولى التي أشعر فيها بالخوف..
والنّدم على ما فرّطته طوال السنوات الماضية.. كان المسجد مليئًا بالمصلّين.. إلاّ أنّي وجدت لسالم مكانًا في الصف الأوّل.. استمعنا لخطبة الجمعة معًا وصلى بجانبي.. بل في الحقيقة أنا صليت بجانبه.. بعد انتهاء الصلاة طلب منّي سالم مصحفًا.. استغربت !!